موضوع: أوراق تونسية ( من وحي زيارتي الاولى لتونس) الأحد يناير 25, 2015 2:39 pm
ها أنذا ألتقط أنفاس الهوى في مسقط قلبي مكناس ، مستريحا من وعثاء السفر الجميل في تونس الخضراء بعد رحلة دامت تسعة أيام جميلة كنت فيها تونسيا أكثر من التوانسة ، ولم أشعر خلالها طرفة عين برياح الغربة حولي ، وبدا لي أنني في بلدي ، فكل الشوارع هناك أصادف مثلها في بلدي ، والكتابات على الجدران وفي الطرقات وعلى المحلات التجارية هي نفسها التي أراها يوميا في بلدي ، والوجوه التونسية هي نفسها الوجوه المغربية ، في أشكالها وأساريرها والتفاتاتها ، مع قليل من الاختلاف الذي لا يكاد يُرى . كل شيء هناك ينبئ أنني في بلدي حتى سائقو سيارات الأجرة الذين تواصلتُ معهم باختصار ،كما أفعل مع الجميع في بلدي ، كانوا ودودين ولطفاء ، فإذا أخبرتهم أنني مغربي هشوا في وجهي بعلامات الترحيب وعبروا عن حصول الشرف لهم بوجودي بينهم . نحن في الواقع بلد واحد ، الوطن العربي له شعب واحد لا شعوب متعددة، وهذا الشعب لا يعترف بالحدود التي زرعتها القوى المستعمرة لتفرق بين أشقاء لهم أرواح وقلوب وعيون واحدة ، فلم تنجح في تفريقهم عن بعضهم ، وكيف ذلك والدماء العربية تجري في شرايينهم التي تشكلة سلسلة طويلة لا سبيل إلى تفكيكها وفصل أجزائها مهما كاد الكائدون . كنت هناك أسافر بين المدن وألتقي الأصدقاء وأجلس في المقاهي في رحلة أسطورية كأنها حلم جميل وُلد ذات ليلة منفلتا من زحام الكوابيس الغامضة المفرعة ، وليس أجمل في وصفها من تعبير الحلم الجميل ، فقد كنتُ هناك كائنا عاشقاً طروباً منتشياً ناعماً ينظر إلى السماء الزرقاء فيشعر فيها كأنه بلبل شاد سعيد كما قال الشابي ذات يوم . وشاركتُ في لقاءين هناك : الأول في مدينة قابس ، والثاني في قرية مطماطة الموجودة في ضواحي قابس ، وألقيتُ شعرا بكامل شموخي وعنفواني المعتادين ، مستحضرا أكثر من أربع وعشرين سنة من الكتابة الشعرية التي شهد لها العلماء بالشعر وأهله ، وكنت فيها أصول وأجول على صهوة القريض ، منذ نشأتي الأولى في المدرسة الابتدائية حين كان يعيش معي حلم يقظة بأن أصبح شاعرا ذات يوم ، وأندفع لسماع الشعر الأصيل المبثوث على شاشة التلفزة بكل حواسي ، وأتمثله في حجرة الدرس رافعا يدي في الهواء أثناء قراءة الشعر كأي ماسترو ماهر ، حتى لقبني بعض الزملاء بالشاعر إعجابا بطريقتي في القراءة والكتابة . من هنا كانت بدايتي مع الشعر . كانت الإجراءات في المطاريين اللذين مررت بهما (مطار محمد الخامس ومطار قرطاجة ) بطيئة وطويلة بسبب المخاوف الأمنية وانتشار العنف والتطرف في هذه المنطقة ، حتى إن المسافرين كانوا يطالبون بنزع أحذيتهم وأحزمتهم وأن يكشفوا عن بطونهم ، ثم يستنطقون من طرف شرطة الحدود قبل السماح لهم بالمرور ، وجاء دوري كذلك رغم ملامحي البريئة التي تشي فيما أعتقد بأنني مسالم ووديع ورقيق، وفوجئت بكم الأسئلة المنهالة علي : إلى أية مدينة ستسافر وماذا ستفعل وكم معك من النقود ووو ، غير أنني كنت أوقف تيّار الأسئلة بجملة واحدة هي : " أنا شاعر " بألف طويلة ممدودة بعناية وكبرياء . جملة صغيرة تختصر مفردات كثيرة عن ماهية الشاعر الذي يحمل في حقيبته عادة أحلام الفقراء والعشاق ، ويسافر دائما إلى نجوم الدهشة والجمال ، ويغوص في بحار الحب غارقا في جزرها المرجانية واجدا فيها حياته وسعادة روحه ، وكم كنت أسترجع في هذه اللحظات بابتسامة مكتومة شكوى نزار قباني في إحدى قصائده ، حين قال إنه كان يظن أن كلمة شاعر عبارة سحرية ستفتح الأبواب في طريقه ، وتجعل الحراس يسجدون له وتسكر الضباط والعساكر ، حتى اكتشف أنها فضيحته الخطيرة وتهمته الكبيرة ، إلا أن الأمر كان مختلفا بالنسبة لي ، فقد كانت عبارة " شاعر " هي كلمة السحر التي فتحت لي مغارة سمسم ، وجعلتِ الحراسَ يقفون لي وقفة احترام وكأنهم على وشك إلقاء التحية العسكرية ! الشاعر يعتبر لقاء الشعراء إنجازا شعريا كبيرا ، فكل نفسٍ تهفو إلى ما يشاكلها ، لذلك كان سروري لا مزيد عليه بلقاء عدة شعراء مجوّدين يشار إليهم بالبنان في المحافل الشعرية ، أذكرهم هنا بالترتيب حسب تاريخ لقائهم : الشاعر السعودي غرم الله الصقاعي ، والشاعرة التونسية خيرة خلف الله ، والشاعر التونسي سفيان مسيليني ، والشاعر الفلسطيني الدكتور محمود النجار ، الشاعر التونسي الدكتور مازن شريف . وهكذا وجدت نفسي محاصرا من الشعراء ، فأين التفت رأيتُ شاعرا أو شاعرة ، وإن لم يكن ثمة شاعر فهناك وجوه تنطق بالشاعرية ، فالشاعرية ليست كتابة فقط ، بل هي سلوك ومنهاج ورؤية للوجود أيضا ، فما أكثر من رأيتهم من الشعراء حولي هناك في تلك الربوع الخضراء ، وما أوضح الشاعرية على ملامحهم ، سيماهم في وجوههم من أثر خضرة المكان . أول جولة لي كانت في مدينة سيدي بوسعيد .. وقفتُ على حواف مرفئها ، وشاهدت القوارب هناك ذات صباح تفرك عيونها النعسانة وهي راسية . كان المشهد جميلا وهي مكللة بالرايات الحمراء ، والماء الأزرق بينها هادئ مثل طفل وديع لم يعرف الشغب يوما .. وغير بعيد كان الشاطئ الرملي أكثر هدوءا ، وكأن أمواجه ما زالت غافية ، فلا مد ولا جزر ، ولا صدام مع الصخور . كان ذلك مهرجان الحب والوئام والجمال ، ولم أر هناك نوارسَ . قلت : لعلها تحلق في سماء أخرى وتفكر في إنشاء شعر جديد ترتله على رمال شاطئ سيدي بوسعيد . لم أشعر بالغربة في هذه المدينة ، فمنازلها المصبوغة بالأبيض واالأزرق أشعرتني أنني في إحدى مدن الشمال المغربي ، لا فرق بين هذه وتلك ، كما لو أن ماردا جبارا رفع بيده مدينة شفشاون الشمالية المغربية الجميلة ووضعني بينها في سيدي بوسعيد ، قبل أن يرتد طرفي . كم أعشق هذه الأجواء الشاعرية ، وكم أسكنُ فيها بكل جوارحي . الطبيعة ملهمتي ومثيرة المشاعر في كياني . بدونها أكون كالبيت بلا قافية . [/size]( يُتبع إن شاء الله )
khalil adnani
عدد المساهمات : 1 تاريخ التسجيل : 25/01/2015
موضوع: رد: أوراق تونسية ( من وحي زيارتي الاولى لتونس) الأحد يناير 25, 2015 5:45 pm